الرجل الذي تخونه الأبواب
الأبوابتخونني يا دكتور، تعبث بي عبثاً سخيفاً لا يطاق، أفتح باب مكتبي فأدخلحماماً عمومياً أو نادياً للبولينج. أفتح باب منزلي فأدخل مصنعاً أومسجداً أو شقة وضيعة. لم تعد الأبواب تفضي إلا إلى مزيد من الحيرة والطرقالخاطئة. حتى باب عيادتك يا دكتور لم يكن سوى باب بريء لمنزل أحدالأصدقاء. أما وقد وجدت نفسي أمامك، فمن الأسلم أن أروي الآن كل شيء. قدلا تتكرر الفرصة كما ترى!
بدأ الأمر بالأمس. وقد حدثت نفسي أنني لودخلت دورة المياه المخصصة للسيدات فلن يكلف الأمر أكثر من اعتذار بسيطوالخروج. حدثت نفسي أن المرأة التي تسوي زينتها أمام المرآة ستنتبه إلىخطئي المفترض وتبتسم. حينها سنصبح أصدقاء وقد أدعوها على العشاء في المساءذاته. أعرف أن ترتيبها هكذا يجعلها صدفة وقحة لكنها صدف تحدث كثيراً فيالسينما. وأنا حدثت نفسي مرة أن أحد صدف الأفلام الجميلة قد تحدث لي يوماًما. لكن يبدو أن حكايات الأفلام كلها لن تحدث لي مطلقاً. كما ستعرف لاحقاًيا دكتور.
الذي حدث أن باب دورة المياه كان خائناً. دخلت ولم أجدالشابة تسوي زينتها أمام المرآة. وجدت نفسي في دورة مياه الرجال، المكانالمألوف الذي لا أريده. المرايا كانت تضحك شامتة وعامل نظافة كان يتجولويغني. خلفي دخل رجل يبدو أن الباب لم يخونه. إذ لم يتوقف حائراً مثليواندفع مباشرة للحمام الأول وهو يصفر لحناً صفيقاً. شعرت بالحقد الغليظتجاهه وأنا أدرك أنني وقعت وحدي في الشرك لم أدخل سوى دورة المياه المخصصةللرجال. حيث لن ينتظرني أحد، وحيث يجب أن أغني وأصفر وأتجاهل خيانة الباب.
...والحياة أبواب يا دكتور. سلسلة طويلة من الأبواب، متاهة. إذا خانك البابالأول فسينتهي العمر في دوامات خيانات لا تنتهي. عندما تدخل الباب الخطأفي بدايات حياتك فانا أقول لك، منذ الآن، أن بقية حياتك لا معنى لها. لوأنك تحمل الاسم الخطأ مثلاً، الاسم الذي لا ينبغي لك أن تحمله. فأنا أشعربالأسى تجاهك. لأن الباب الوحيد الذي لم يكن لك الحق في اختياره قد اختيرلك بطريقة سيئة. لأن بدايتك تشبه دخولك بصخب حفلة لست مدعواً لها. الأمرالذي سيدفع المدعوين إلى التوقف والتحديق فيك بدهشة: ما الذي أتى به؟وماذا يريد؟
الأمر أكثر سوءً لو أنك أحببت المرأة الخطأ. وأكثرسوءً لو أنك تزوجتها! لن يعني هذا فقط، أنك سرقت باباً يخص رجلاً غيرك،إنما يعني دائماً، أن الرجل الذي سرقته سيضطر إلى سرقة باب لا يخصه. وهكذاستتداخل الأبواب، وتعرف في آخر حياتك، عندما تجلس وحيداً وتشكو لنفسكأمراض المفاصل والكوليسترول ودسك الظهر، أي فوضى تسببت فيها.
بالنسبةلي، لقد ساء الأمر، ساء تماماً. فتحت باب مكتبي صباحاً وإذا بي أدخل منزلرحمة (رحمة اسم أم زوجتي السابقة، بدأت أناديها باسمها منذ الانفصال) لمألق التحية، ولم أبدأ الحديث عن الأبواب الخائنة إلا ورحمة ترحب بي، وتقولأنها تعرفني عاقلاً لن أعطي فرصة للشيطان ولا للعب العيال. فوجئت تماماًيا دكتور. كنت قد رضيت بالطلاق بعد أن آمنت أن زواجي لم يكن سوى باب خائنآخر. رحمة لم تعطني الفرصة. رحبت وفرشت الأرض بلسانها وقدمت القهوةوالحلوى المنزلية. ونادت زوجتي السابقة قائلة: لقد جاء للصلح! وزوجتي لمتعطها فرصة أيضاً، جاءت في كامل زينتها ومكياجها وقدمت العصير بنفسها. خرجالأمر تماماً من يدي كما ترى!
مساء، بدأت أتحكم في الأمر شيئاًفشيئاً. الناس يعقدون صداقات محدودة مع أبوابهم. يعلقون عليها صورهمالثمينة وحروفاً لأسماء حبيباتهم وبعض تذكاراتهم ومعاطفهم. المتحضرونوالمؤمنون يحبون أبوابهم ويبدلون ملابسهم خلفها بامتنان ويسندون ظهورهمعليها حال البكاء. والذين يدلفونها بصخب ويصفقونها خلفهم (مثلك يا دكتور،ومثل رحمة) هم حمقى سيعاقبهم الله بباب جهنم ولا شك! مشكلتي أنني فهمت كلهذا متأخراً. بدأت أعقد صداقتي الخاصة مع الأبواب. أطرقها مراراً فتشعربالأهمية والوزن. أفتحها بهدوء وأتأكد. بدأ الأمر يفلح أخيراً. بدأت أصلإلى وجهتي الصحيحة. وإذا حدث وخانني أحد الأبواب فإنني أعاقبه ولا أعودإليه مرة أخرى. هكذا بدأت المياه تعود إلى مجاريها.
وأنا الآن،أمامك، يا دكتور لإثبات كل شيء. قرأت على بابك: (الدكتور فلان، طبيبنفسي). طرقت الباب بلطف. وفتحته بهدوء. ودخلت. فعلت كل شيء كما ترى. وقلتكل ما أملك دفعة واحدة. إذا طلبت مني الجلوس وسألتني الأسئلة المعتادةالسخيفة. فسيعني هذا أن الأمور في نصابها الصحيح. وأنني دخلت بالفعل عيادةنفسية. وأن الأبواب منحتني ثقتها مرة أخرى. أما إذا تحولت يا دكتور، بقدرةقادر، إلى مدير عام، أو عامل مصبغة، أو حتى رئيس دولة. أو حتى رحمة.فسيعني هذا أشياء أخرى.
سيعني هذا أن الأبواب تنتقم مني، تضطهدني،ربما فتحت منذ زمن باباً لا يخصني. ربما هي زوجتي، وظيفتي، مكان قضاءإجازتي الأخيرة المملة، تخصصي في الجامعة، نوع سيارتي، جريدتي المفضلة أوحتى اسمي. الذنب ليس ذنب الأبواب. أنا الذي فتحت الباب الخطأ. قد يكون هذافي طفولتي كما قد يكون بالأمس. وأنا أكرر الخطأ الآن. الأمر يبدو لي متاهةوأبواباً خائنة. لكنني أعترف الآن: لا ذنب للأبواب فيما يحدث. هي تعاقبنيعقاباً طبيعياً فحسب. الوحدة تخونني، التوحش يخونني، والشابة التي تسويزينتها أمام مرآة في دورة مياه النساء تخونني، لكن الأبواب لا تخونني..
مثلكل صباح، سيطلب الرجل الجالس خلف المكتب من الرجل الذي تخونه الأبوابالجلوس. سيرفع سماعة الهاتف قائلاً باقتضاب: تعال. سيدخل رجال الأمنليقتادوا الرجل الذي تخونه الأبواب. سيدخل في إثرهم السكرتير معتذراً: آسفيا سعادة المدير. دخل بسرعة ولم أره.
وسعادة المدير طيب جداً. إذ أنهفي كل صباح يسمع كل كلام الرجل الذي تخونه الأبواب بانشراح وتفهم. وكلصباح يستدعي رجل الأمن العتيد ويسامح السكرتير على تقصيره. وكل صباح يأتيهقرار اللجنة الطبية عن الرجل الذي تخونه الأبواب ( شيزوفرينيا. وفقدانذاكرة مؤقت). ومع ذلك لا يصدر قراراً بفصله لعدم الكفاءة الصحية. مع علمهالمسبق أن المشكلة ستتكرر، وأن الرجل سيقتحم عليه مكتبه في الصباح التاليصائحاً: ( الأبواب تخونني يا دكتور!) .
منقول عن الاديب منصور العتيق