انا قريت موضوعات ع المنتدى فى فتره غيابى وكان فيها اختلاف اراء
يا ريت بجد الكل يقرأ ويستفاد
الاختلاف من الظواهر الطبيعية التي تميز سلوك الإنسان، وتجعل كل شخص مغاير للآخر في هواجسه ونوازعه وطموحاته ومصالحه، وفي سلوكه وأسلوب تعامله مع الغير، وفي تفاعله مع الظروف المحيطة به، ومهما كانت القواسم المشتركة بين الناس ، وكيفما كانت الخصائص التي يمكن أن تتميز بها مجموعات بشرية معينة في إطار تاريخي أو جغرافي أو سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو حضاري، فإنه من العسير جدا إن لم نقل من المستحيل أن يصل التقارب إلى حد التطابق، ولو تعلق الأمر بشخصين منحدرين من مجتمع واحد، أو من نفس الأسرة، وتلقيا تربية واحدة، وترعرعا داخل نفس المحيط، وعاشا في نفس الظروف.
وتصبح شقة الاختلاف بين الأشخاص أكثر وضوحا، وأكثر اتساعا، باختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واختلاف العصور، وتباين الأجيال، كما أن اختلاف المواقع، وتباين الأهداف والمصالح، يؤدي عادة للاختلاف في تكوين الآراء، وفي صياغة الأفكار، والاختلاف في المواقف، وفي طريقة التعبير عنها، ويقول المثل (إن من يضع يده في الماء ليس كمن يضعها في النار)، لأن حالة الشخص الأول لا تدعو لأي قلق، ومن الطبيعي أن يكون هادئا، بينما حالة الشخص الثاني تفرض عليه الصراخ بأعلى صوته، والتحرك بقوة، للتخلص من الحريق، وما ينتج عنه من آلام، وإذا تصورنا شخصا ثالثا يده في العسل، فإنه لن يكون هادئا فحسب وإنما سيبذل قصارى جهده، حتى لا تطير الحلاوة من بين يديه في أي وقت من الأوقات .
ورغم أن طبيعة الإنسان ممهورة بالاختلاف، فإن التعبير عن هذه الخاصية ما فتئ يطرح الكثير من الإشكاليات، وخاصة في المجتمعات المتخلفة، حيث أن ممارسة السلطة كثيرا ما تتأسس على الشعور بنوع من التفوق الوهمي، والتظاهر بامتلاك الحكمة، والإلمام بالحقيقة، وفي المقابل يكون الرأي الآخر، وكأنه غير ذي موضوع، بل إن وجوده يصبح مجرد عامل للتشويش، مما يدعو لإقصائه، وإبقاء المجال مفتوحا فقط أمام من يساير الرأي الواحد، الذي لا يحتاج إلى اقتناع الآخرين بمضمونه، ما دام أنه ينطلق من وهم امتلاك الحقيقة، ويستند في سريانه على قوة لا تكافؤ بينها وبين باقي الأطراف المتعاملين معها.
ولا ينحصر مفهوم السلطة هنا في نفوذ الحكام داخل المجتمعات السياسية، وإنما يتسع هذا المفهوم ليشمل كذلك سلطة زعماء الأحزاب، ورؤساء الهيئات النقابية ومنظمات المجتمع المدني داخل هيئاتهم، وسلطة المسؤولين الإداريين بإداراتهم، وسلطة أرباب العمل بمؤسساتهم، وسلطة المعلمين والأساتذة داخل حجرات الدراسة، وسلطة الآباء على أبنائهم ..
وتبرز إشكالية إنكار الحق في الاختلاف، عندما يتميز سلوك الطرف المالك للسلطة، بعدم قبول الحوار، وعدم التنازل عن الموقع "المتميز"، أو "المتفوق"، للمشاركة على أرض التكافؤ في المناقشة، ويعتبر أن ما يقوله بمثابة أوامر نهائية، لا تقبل التعديل أو الإلغاء، ولا تحتاج إلى اقتناع الطرف الآخر، وأن عدم الأخذ بها، أو حتى انتقادها يكون من قبيل الخروج عن طاعة السلطة، والانحراف عن النهج الذي تعتبر أنه لا بديل عنه.
وفي معظم المجتمعات التي لم تنل حظها الكافي من التحضر، ما زالت التقاليد الاجتماعية الموروثة، والثقافة السياسية المتخلفة، تحول دون ممارسة الحق في الاختلاف، وتعوق ترسيخ قواعد الحوار، الذي ينطلق من الإقرار بنسبية الحقيقة، وانعدام العصمة، والقبول بواقع التعدد، ووجود الرأي المخالف، والاعتراف للآخر بحريته في التفكير، وحقه في إبداء الآراء المغايرة، والتعبير عن تصورات واجتهادات جديدة ولو كانت تنقض ما كان سائدا قبلها، أو لا تنسجم مع ما تقول به الجهة الماسكة بزمام السلطة .
ومن الصور التي يحبل بها الواقع، وتنطوي على إنكار الحق في الاختلاف، انغلاق وسائل الإعلام العمومية، واقتصارها أو تركيزها على إبراز رأي واحد يكون عادة هو رأي السلطات السائدة، ومحاصرة كل الآراء التي لا تروق هذه الأخيرة، أو لا تشاطرها في اختياراتها، وتغييب الأعمال المخالفة لسياستها، ومصادرة الآراء والمواقف المنتقدة لأعمالها، ولو جاء هذا الانتقاد في شكل عروض فنية.
ومن حالات إنكار الحق في الاختلاف نسبة 99 في المائة التي تسفر عنها الاستشارات الشعبية في العديد من الدول المتخلفة، مما يجعل تلك الاستشارات عديمة المصداقية، ومجرد عمليات شكلية فارغة من مضمونها الديمقراطي، بما تنطوي عليه من مصادرة للرأي المخالف.
وإن أزمة إقرار الحق في الاختلاف في عدد من المجتمعات، تكشف عن غياب الممارسة الديمقراطية السليمة، وانتهاك حقوق الإنسان، ولو كانت هناك انتخابات واستفتاءات شعبية، وأحزاب ونقابات، وصحف مختلفة الأشكال والألوان، لأنه مع إنكار الحق في الاختلاف، لا يبقى أي معنى لحرية الفكر، وحرية الرأي والصحافة، وحرية تأسيس الأحزاب السياسية، وحرية الانتماء، ولا يكون المجال مفتوحا لانتشار ثقافة الحوار الديمقراطي .
وما يجري على المستوى السياسي، لا يكون سوى صورة مكبرة لنوع العلاقات والممارسات السائدة في المجتمع، فحينما تنعدم ثقافة الحوار لدى الأفراد في حياتهم الأسرية والمهنية والجمعوية والاجتماعية، فإن هذا الواقع ينعكس على الحياة العامة وعلى الممارسة السياسية، حيث يسود السلوك البدائي الذي يتسم بالانغلاق والتعصب، ورفض الرأي المخالف، وإقصاء أصحاب الفكر المغاير، واستبعاد كل بديل لما هو راسخ في الذهنية المنغلقة والمتعصبة، ومقاومة الرأي الآخر بجميع الوسائل، وقد يصل الأمر إلى إصدار أحكام جاهزة بالخيانة أو التكفير، أو غير ذلك في حق كل من ينتقد الجمود، ويقترح البدائل، أو من يجهر بفكرة تعارض الأهواء الخاصة والمصالح الضيقة للقابضين بزمام الأمور.
وإذا كان النظام الديمقراطي يُحقق من الناحية المبدئية في المجال السياسي، فرصة إدارة الشأن العام وفق ما ترتضيه أغلبية المواطنين ، فإن قيام الديمقراطية الحقة يبقى متوقفا على احترام الحريات الفردية والجماعية، ومنها على الخصوص حرية التعبير كوسيلة لممارسة الحق في الاختلاف على جميع المستويات، سواء في مرحلة إعداد التصورات العامة، وتكوين المجموعات والهيئات، أو خلال عرض الاجتهادات المتباينة أمام الرأي العام ، أو عند الاختيار بين البرامج المتنافسة، أو بمناسبة مراقبة التسيير.
ولما كان الفوز في ظل التعدد والاختلاف لا يتحقق بالإجماع، فإن الحصول على الأغلبية يعني أن هناك أقلية لا تشاطر الاتجاه الفائز في طروحاته، ومهما كانت نسبة الأقلية ضئيلة، فإنها تبقى موجودة، ولا يمكن إلغاؤها، أو اعتبارها مجرد ديكور شكلي لاكتمال الصورة المتعارف عليها في البناء الديمقراطي، كما أن الفوز بالأغلبية لا يعني أن كل الصواب مع الجهة الفائزة ، وأن هذه الأخيرة غير معرضة للخطأ، وبالتالي فإن كل شيء يبقى نسبيا، مما يجعل الاختلاف أمرا حتميا، ويكون التعبير عنه ضروريا، لضمان الحيوية والتفاعل بين الآراء والأفكار، كوسيلة للتطور المستمر، والتغيير المتواصل نحو الأفضل.
وحتى لا يكون الاختلاف سببا في الاصطدامات والمواجهات التي قد تتخذ أشكالا عنيفة، فإنه لا مناص من حوار يقوم على مجموعة من الأسس أهمها:
توفير فرصة المشاركة أمام جميع المعنيين دون أي استثناء.
تكافؤ المتحاورين، وعدم اعتبار قوة السلطة أو المال أو أي عنصر آخر للتمييز، أو لإعطاء صفة التفوق من أي نوع لفائدة طرف دون آخر.
عدم الترجيح المسبق لأي فكرة أو رأي.
قناعة كل الأطراف بإمكانية تعديل أو تغيير ما يطرحونه من وجهات نظر مختلفة.
ترجيح الجانب الذي يستند لقوة الحجة ومنطق العقل، أو يحظى بمساندة الأغلبية.
حرية توجيه الانتقاد للاتجاه المرجح أو الفائز بالأغلبية، وحرية الدفاع عن الاتجاه أو الاتجاهات المخالفة، والاجتهاد في طرح البدائل.
قناعة كل الأطراف بأن الاختلاف طبيعي. ولا يبرر أي عداء أو حقد أو تنافر.
قناعة الجميع بأن استغلال النفوذ الإداري أو المالي أو المعنوي للانتقام من ذوي الرأي المخالف، يعد من قبيل السلوك المشين وغير المتحضر.
وبالارتكاز على هذه الأسس يتهيأ المناخ الطبيعي للتعدد، ويتمكن الأفراد والجماعات من ممارسة حرياتهم الأساسية، فلا يحد منها سوى حريات الآخرين، ومقتضيات القانون التي تسري على الجميع بالتساوي، ويتحرر سلوك الأشخاص من كل نرجسية ذاتية، ومن كل أنانية مصلحية ضيقة، ويتأهل الجميع لولوج عهد الديمقراطية وحقوق الإنسان .